روائع مختارة | قطوف إيمانية | التربية الإيمانية | ذهب الظمـــأ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > التربية الإيمانية > ذهب الظمـــأ


  ذهب الظمـــأ
     عدد مرات المشاهدة: 2649        عدد مرات الإرسال: 0

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

ذهب الظمأ.. ذهب الظمأ..

ذهب الظمأ، وإبتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله.

يا لها من كلمة!!

ذهب الظمأ، كأن الصوم به عذاب الظمأ.. كأن الصوم في آخره لذة الرجاء.. ذهب الظمأ، إنها تساوي: تعبك راحة.. إنها تساوي: لم أر منك إلا خيراً.. إنها تساوي: وماذا يعني الظمأ في سبيلك إن كنت أحب إليّ من الماء البارد على صدري؟ ذهب الظمأ، كلمة الصائمين عند فِطرهم.. ذهب الظمأ، كأنها تشبه كلمة آخر من يدخل الجنة، كأنها كلمة الذي تطأ رجله الجنة بعد عذاب الدنيا كله، فيقول: والله، والله، ما رأيت شقاءً قط، ولا رأيت بؤساً قط.

ذهب.. مضى.. نسيته.. لا أجد شيئا من ذلك.. ذهب الظمأ.

فأين الصوم؟ أين الصائمون؟

إنك حين تسأل، تسمع العجب في أمر تنصّل الناس من صوم هذه الأيام الفاضلة.. ستسمع مثلا: أنا إذا صمت، أنام ولا أستيقظ.. أنا إذا صُمت، لا أُحسِن شيئا في اليوم كله.. أنا لا أقدر على العطش.. ظروفي.. ظروف العمل لا تسمح.. ظروفي الصحية تحول بيني وبين ذلك.. وو..

وكأن الصوم ليس إلا للـ فُرّاغ! وكأن الصوم ليس إلا لمن لا ظروف له!! من منا لا ظروف له؟ ومن منا لا يمرض؟ ومن منا عمله غير شاق؟ ومن منا لا يظمأ؟ ومن منا لا يجوع؟ ومن منا لا يحب هذه المطعومات المشروبات لاسيما في الصيف؟ من؟؟

ومن أعجب ما تسمع أن مِن أفتن المفتونين مَن ينسب فطره إلى طاعة الله، يقول: أستعين بالطعام على العبادة!

وهل علم سلفنا من العباد -أيها العابد- إلا الصوم؟

إن الصوم مفتاح هذه العبادات، الجوع والعطش مفتاح القلب، عباداتك كلها من القلب، ولو أنك فعلتها مع الصوم لوجدت الإخبات الذي حُرمت منه مع الصوم، فالإخبات في العبادات صفة الذي يتعبد وهو صائم.

وتأمل قول من يقول: أنا لا أصوم، بل أفُطر لله، وذلك لكي أركز في القرآن!!

وهل طُُلب منك أن تواصل الصوم طوال حياتك؟

أنا أكلمك عن رجب وشعبان ورمضان، أنا أكلمك عن الاثنين والخميس، أنا أكلمك عن أيام البيض، أنا اُكلمك عن صوم يوم وفطر يوم.. فـ: لمن ستترك كل هذا؟

يا عبد الله...

إنك بفطرك هذا: صائمٌ عن الجنة.. صائمٌ عن الآخرة.. صائمٌ عن الحسنات.. صائمٌ عن باب الريان.. صائمٌ عن الفردوس.. صائمٌ عن مناجاة الله:«..يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي» متفق عليه.

صائمٌ عن الاحتساب.. صائمٌ عن التضحية.. صائمٌ عن الذل مع الله.. صائم عن التزكية.. صمت عن الصيام، فذهب الإخبات.. ذهبت التضحية.. ذهبت التزكية.. ذهب الإخلاص.. ذهب السر.. وذهب الاحتساب..

يا عبد الله...

لا تزال ظمآن يا مسكين، لا تزال غير مرويّ يا محروم..

أيها المحروم من الصوم، إن هي إلا ساعات، ويعود إليك الظمأ، مثل الذي صام!!

أيها المحروم من الصوم، إن هي إلا ساعات، ويشرب الصائم بجوارك، ويذهب ظمؤه مثلك!!

من وجد الله، فماذا فقد؟ ومن فقد الله، فماذا وجد؟

يا عبد الله...

إنني لا أريدك أن تصنف مقالتنا هذه تحت عنوان الصوم، وإنما خذ منها ما سيأتيك عن التضحية والإخلاص والتزكية والإحتساب، ولا تضعها في خانة الصوم، لأن منا من يسرد الصوم سردا، ولا يتركه أبدا، لكن مع هذا لا تزال فيه من الأنانية، ولم يتعلم من مدرسة الصوم.. منا من لا تزال فيه قلة الإحتساب والرغبة في الدنيا، ولم يتعلم من مدرسة الصوم.. منا من لا تزال نفسه لم تذكر، ولم يتربّ في مدرسة الصوم.. منا من لا يزال سره حقيرا، مع ما يسرد من الصوم..

إذن فلنجعل مقالتنا اليوم لا عن الصوم، وإنما: ذهب الظمأ.

ذهب الظمأ، أسوقها للأعزب الذي تراوده نفسه إذا خلا، كي يجعل منهجه قوله: غداً أقول، ذهب الظمأ.. إذا لقيت الله، فزف إليك الحور فقل: ذهب الظمأ.

ذهب الظمأ، أسوقها للذي إستدان، وقلّ ماله، وعُرض عليه الحرام أو المشبوه كي يُمنّي نفسه بذلك اليوم، ويقول: غداً أقول، ذهب الظمأ، ذهب الظمأ، أسوقها لكل محروم كي يُمنّي نفسه بالآخرة، ويقول: غداً أقول، ذهب الظمأ، فاللهم اجعلنا من هؤلاء الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.

أيها الظمآن من زهرة الدنيا.. إستبشر بيومٍ تقول فيه: ذهب الظمأ، يا لهذا الصوم! ويا لعِظمِ ما فيه من الأجر! إنه حقا وصدقا مدرسة.

يقول ابن عمر رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أفطر يقول: «ذهب الظمأ، وإبتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» صحيح الجامع 4678.

ذهب الظمأ، أين الظمأ؟ ذهب، أين ذهب؟ إنتهى مع أول شربة بل قبل أن يشرب يقول: ذهب، أنا لا أجد ظمأ يا رب.

يا له من أدب عالٍ! فقبل أن يضع على فيه الماء، كأنه يقول لله: تعبك راحة، ذهب الظمأ، كأنه يقول لله: ما رأيت في سبيلك مشقة قط، ذهب الظمأ.

ذهب الظمأ، وإبتلت العروق.. العروق الظمآنة التي في جوفي إبتلت، وذهب الظمأ.. ذهب الظمأ، وإبتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله.. تأمل أنها سنة أن تقول: ثبت الأجر.

تصور -والقبولُ غيب- أن الله شرع لك وأنت تفطر أن تقول ما يفيد أنك مأجور، مقبول: ثَبتَ الأجر..

سُنة أن تقول: ثبت الأجر..

سُنة أن تعتقد أن الله لن يضيع ظمأك، ولن يضيع مخمصتك وجوعك.

ذهب الظمأ، ذهب.. إنتهى.. إنقضى.. لا أجد منه شيئا.. ذهب..

وماذا حينها؟

1= التزكية:

هنا مدرسة التزكية، هنا فرع التزكية من مدرسة الصوم، هنا تربية النفس على أنها لا شيء، هذه وقفة مع أشد الشهوات وأهمها وأعظمها ضرورة في الحياة، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].

ومع هذا، تقول لنفسك: صه، ذهب الظمأ، لا يوجد ظمأ، ذهب..عجيب! أنا أريدك أن تجربها وأنت صائم في هذا الحر، وعملك قد أدر منك العرق.. أريدك أن تحمل الماء إلى فمك، وتستشعر هذا المعنى، أي قبل أن تشرب تقول: لست عطشانا، ليس هناك عطش، هذا من أجلك يا رب، هانت نفسي من أجلك يا رب، انتهى ذلك الغم، راودتني نفسي على الفطر فرددتها، وقلت لها: ذهب الظمأ.

أريدك أن تجرب أن تقول لنفسك هذا.. أن تقول لها منذ الصباح: أنا سأصوم لأقول لله قبل فطري: ذهب الظمأ وإبتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله.

قف مع نفسك هذه الوقفة: نفسك أشد ما تحتاجه هو الماء، وقد قدرت عليه، فكيف بالسجائر؟ فكيف بالمال الحرام؟ فكيف بالنساء؟..

رد عنك كل هذه الخواطر.. أنت لا تحتاج لشيء في الدنيا أكثر من الماء، واصبر، وقل: ذهب الظمأ.

إن النفوس خلقت من أمشاج وأخلاط رديئة، قال عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2].

النطفة وصفها أنها أمشاج.. أخلاط من الأخلاق الحسنة والسيئة على السواء.. أخلاط من طباع الخير والسوء على السواء.

لماذا يا رب أمشاج؟ يقول الله تعالى: {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2].

فأنت خلِقت على هيئة أمرك الله أن تتطهر منها، أنت خلقت من أمشاج، وأُمرت أن تكون صادقاً صافياً خالصاً، قال الله تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].

خلّص هذه النفس من الأمشاج، ولا يكون ذلك إلا بتربيةٍ وتخلية، والتخليةُ من أهم ما يعينك عليها الصوم، فبه تتخلى عن الرغبة في اللذة، وتتخلى عن الرغبة ولو في المباح، تصور؟ الماء حلال ليس حراما، ولكن تُمنع منه في صومك لكي تتربى على الصبر على الحلال، فيكون الحرام عليك يسيرا، وهذه هي التزكية.

إن التزكية هي عملية تخليصٍ للنفس من شوائبها وأمشاجها، وذلك بالصوم يتحقق بإذن الله.

فالذي لا يصوم ضاعت منه التزكية، ولم يذهب عنه الظمأ.

إن هذه العبادات التي وفقك الله لها من تلاوة، وقيام، وصيام، وصدقات، وصلة، وسعي لطلب الحلال.. كلها من غير الصوم لها طعم، ومع الصوم لها طعم آخر.

بينك وبين النشاط شربة ماء.. بينك وبين ترك الخمول والانطلاق وذهاب العرق شربة ماء.. ولكنك تتركها، وينهدّ جسمك، وينهار صلبك.. لله.

وسيصلك هذا المعنى بوضوح أكثر في العنصر الثاني.

2= التضحية:

أيها الإخوة...

لا شك أننا نعيش زمان الأنانية، والذي يُريد أن يكسب وحده.. الذي يريد أن يربح وحده.. الذي يريد أن يزوره الناس ولا يزورهم.. الذي يريد أن يتصل به الناس ولا يتصل بهم.. الذي يريد أن يحترمه الناس ولا يحترمهم.. الذي يريد أن يأخذ ولا يُعطي.. فاته هذا المعنى الكبير من معاني الإسلام، معنى التضحية والإيثار والبذل والعطاء، فكان من أسرار تركِه للصوم أنه لم يُربَّ على التضحية، ولم يتلذذ بالترك، ولذة الترك عند العابدين ولذة العطاء عند المتقين أكبر وأحلى وأشهى وأنقى من لذة الآخذين.. الطمّاعين.

إن هؤلاء الذين تركوا الصوم متهمون بترك التضحية.

وهنا تجدر الإشارة للذي لا يطيق أن يصوم لأجل صحته -كأن يكون عنده دواء لابد أن يتناوله كل ساعة، أو لأسباب صحية معينة قد يحتاج أن يشرب كل ساعة- أن أمارة صدقه في طلب الصوم أن يعزم منذ اليوم على إطعام أهل الصوم..

من فاته الصوم فلا ينبغي أن يفوته أن يطعم القوم الصائمين، تأمر أولادك بالصوم، وتنوي بإطعامهم أنك تطعم الصائمين، فإن لك فيها الأجر إن شاء الله: «من فطر صائما كان له مثل أجره» صحيح الجامع 6415.

يا عبد الله...

إن هذه التضحية هي التي تجعلك تصوم ولا تفطر، وحين تمر أمام عربة الفول في الصباح  -وأنت الذي إعتدت أن تأخذ إفطارك كل يوم إلى العمل- تستشعر معناها.

يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ* مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:119-120].

تأمل هذه الثلاثة النصَب والمخمصة والظمأ، وأنت تمر بالطعام والشراب، وإستشعر: {كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}.

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ..}: ما كان لك أن ترغب لنفسك في طعامها.. في سقيها.. في ريها.. أن ترغب في قوتها، ونشاطها، وفي تمكينها.

{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..}: اعرق، انصب، اظمأ، جُع في سبيل الله. فإن الشيطان كافر، ولا يريدك أن تصوم.

{وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: يا لخسارة التضحية إن كانت لغير الله!

{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ، وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ}: انظر ماذا خسّرتهم الأنانية، عن من تخلفوا؟ عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، يا لبطش الأنانية! يا لخسارة التضحية من أجل النفس، من أجل المال، من أجل الأولاد، من أجل الزوج!..

من الناس من يضحي من أجل سيارته!.. من يضحي من أجل مكانته!.. من يضحي من أجل شكله وهيئته!.. من يضحي من أجل صحبته!.. من يضحي من أجل غير الله، وكل هذا سيصير ترابا.

آه من حب غير الله، ويا لهول ما ينتظر العاشق الذي على هاتفه الـ ".."، الذي يرن في الليل لـ ".."، الذي يرسل الرسائل إلى ".."، الذي لا ينام حتى يفكر في ".."، الذي يستيقظ فتخطر بباله ".."، الذي إذا ابتُلي ذكر "..".

هذا العاشق المُبتلى، يذيقه الله عذاب الدنيا والآخرة، جزاءَ ما ضحى لغير الله، والقصص كثيرة، والمآسي غفيرة لا آخر لها فأسأل الله أن يعافيني وإياكم من ذاك العشق.

التضحية لغير الله هباء، قال الله جل جلاله: {وَمِنَ النَّاسٍ مَن يَتَّخِذ من دُونِ اللهِ أندَادَاً يُحبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} [البقرة:165].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة..» الجامع الصحيح 6435.

في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ*إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:165-166]،   تأمل أنهم يتبرؤون منهم، ويرون العذاب في الدنيا والآخرة، وكم تبرأت معشوقة من عاشقها بعد أن ضحى من أجلها! وكم تبرأ معشوق من عاشقته بعد إذ ضحت من أجله! وكل ذلك هباء.

وإن كان ذلك حراما أصليا، فإن الحلال كذلك، ومنه التضحية لأجل الولد، ولأجل الزوج، ولأجل الناس، ولأجل النفس.. فكلها إن لم يكن من ورائها الرغبة في وجه الله، صارت هباء وحسرة في الدنيا والآخرة.

ولعل قصة الرجل الصيدلي رحمه الله الذي أحرقه ولده ليست بمجهولة، فهو أفنى عمره في سبيل ولديه، واشترى لكل واحد منهما صيدلية، حتى الذي لم يكن ناجحا في دراسته، ولم يدرك المجموع، صرف عليه في العام ثلاثة وثلاثين ألفا من الجنيهات ليدخل كلية خاصة، وينال الصيدلة، وإذ بأهل المدينة يوما يستيقظون على رائحة الشياط وأصوات المطافئ.

ما الخبر؟

أُحرق الرجل.

لماذا أُحرق؟ وكيف أُحرق؟

يا عجباً، ما بال كل البيت لم يُحرق، فقد انبعث منه دخان دون أم يحترق.

لقد أحرق الولد والده على فراشه بالكيمياء، من غير أن يُحرق الفراش!

من أين تعلم هذه الكيمياء؟

من مال الوالد.

إلى أين أيتها التضحية؟

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14].

إخوتاه...

لا تقشعرنّ أبدانكم من هذا المثال البشع، فإن في الآخرة ما هو أبشع، سيحرق أبناء آباءهم في النار، لأنهم تركوهم في الدنيا يرتعون في المعاصي والأوزار.

فـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

يا لخسارة التضحية إن لم تكن لله، والصوم يعلّم التجرد لله.

أيها الإخوة...

إن هذه التزكية، وهذه التضحية، فرعان من مدرسة: ذهب الظمأ، ويرتبط بهما أصل ثالث نشرحه الآن بحول الله، فأسأل الله جل جلاله، أن يهديني وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يثبتنا على مرضاته. إنه ولي ذلك والقادر عليه.

3= الســــر مع الله:

أيها الصائمون...

أيها الممتثلون لمبدإ ذهب الظمأ.. ذهب الظمأ، وإبتلت العروق وثَبت الأجر إن شاء الله، هذه المدرسة هي مدرسة تزكية ومدرسة تضحية، ثم إنها مدرسة السر مع الله.

إننا نحتاج بشكل مُلح إلى التركيزعلى مسألة صلاح السر بين العبد وربه.

فيا عبد الله، إحترس.. عين الله لا تتركك، وأنت عنها لا تغيب، فإنتبه!

الله يراك وإن خلوت، وإن سُتِرت، وإن وضعت كلمة السر، وإن أخفيت، وإن داريت، وإن إستخفيت.. الله يراك..عين الله تتبعك.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباء منثورا». قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلّهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: «أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» السلسلة الصحيحة 505.

قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء:108].

الله يرى خواطرك، وهو الباطن فليس دونه شيء، الله يرى ملفاتك السرية، الله يرى ما أخفيت، الله يرى أحقادك وأحسادك، الله يرى أضغانك، الله يرى ما أخفيته، الله يرى سرك كما يرى علانيتك، الله يراك في الظُلمة كما يراك في النور، الله يراك في الخلوة كما يراك في العلانية، الله يرى ما أخفيت وما أسررت. ومدرسة "ذهب الظمأ" تعينك على صلاح السر.

أساتذة في مدرسة ذهب الظمأ:

داوود بن أبي هند رحمه الله أستاذ في مدرسة ذهب الظمأ، كان إذا خرج من بيته إلى السوق يأخذ معه طعامه، فيتصدق به في الطريق، فإذا وصل إلى عمله، ظن أهل العمل أنه أكل في البيت، وإذا عاد إلى بيته ظن أهل بيته أنه أكل في السوق، يا الله!

ونقول للذي ترك الصوم إن أمارة الصدق أن يُضحي المرء بالطعام ويُطعِم، وهذا ما فعله داوود بن أبي هند الذي حاز الأجرين -نحسَبه-، وحرص على الخلقين، ذلك أن مدرسة ذهب الظمأ تُعلّم التضحية والإنصاف، وتعلم صلاح السر مع الله.

سفيان الثوري رحمه الله تعالى أستاذ في مدرسة السر كذلك، كان يقول: كل عمل صدر للناس لا أعدّه شيئا، لأن قلبي ضعيف أن يُخلص والناس ينظرون، وكان يقول: لا أرى للرجل شيئاً خير له من أن يدخل في جحر فالسر أحب إليه من العلانية.

ومن الأساتذة كذلك إبراهيم بن أدهم الذي قالوا عنه: كان إبراهيم بن أدهم كإبراهيم الخليل، والله لو كان صحابياً، لكان من الأفاضل، كانت له سرائر، والله ما رأيناه يظهر تسبيحاً.

ومنهم أبو يزيد الذي قال عنه بن مسعود: والله لو رآك رسول الله لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين.

ومنهم الربيع بن خثيم الذي كان إذا ظهر للناس نشر شيئا على مصحفه لكي لا يُرى، فالزم السر.. السر مع الله أيها المستخفي بخواطر السرور، حتى تتمكن منك وتُوقعك.

أعرفت الآن ما سر خيبتك في الخلوة؟

إنك لم تتربّ في مدرسة ذهب الظمأ.

ولعلك تسأل: ما علاقة الصوم بالسر؟ العلاقة في قول الله جل جلاله: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به» متفق عليه.

فكل عمل ابن آدم يظهر للناس، لكن الصوم بينك وبين ربك، وهنا ننتقل إلى النقطة الرابعة والأخيرة:

4=الاحتساب:

إن الصوم يُدرّس مع السر الإحتساب، وله علاقة كبيرة جدا بهما معا.

قال العلماء إن الصوم أمر لا يراه الناس، وهذا صحيح طبعا، إذ هل رأيت صائما في حياتك؟

إنك رأيت رجلا يقول لك: أنا صائم، إنك رأيت رجلا تظن فيه أنه صائم -وهذا الظن في المسلمين مثلا في رمضان- ولكن، أين الصوم نفسه؟ أين الصوم؟ إنه لا يُرى، لا يُرى لأنه عملية ترك، ولا يرى الصوم إلا الله.

نعود إلى الحديث القدسي: «..إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به» متفق عليه، ولاحظ معي ما أعجب هذه النسبة.. نسبة الصوم إلى الملك سبحانه!

في رواية صحيحة أخرى، يقول سبحانه وتعالى: «..إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي»المسند الصحيح 1511.

وفي رواية ثالثة: «لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به» الجامع الصحيح 7538.

أتدري ما معنى هذه؟

يقول الله عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].

ورسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال يوما لأصحابه: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» المسند الصحيح 2581.

إن الحسنات تذهب بالسيئات، والسيئات تذهب بالحسنات، إلا الصوم، فلن يأخذه منك أحد على القنطرة، غذ كل عمل ابن آدم له كفارة -يكفر السيئات- «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به».

وفي رواية أخرى للحديث يقول عز وجلّ: «ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» الجامع الصحيح 1894.

ما أجر الصوم؟

الصوم أجره بإذن الله:

ـ أن يباعد الله بينك وبين النار مسيرة سبعين خريفا.

ـ أن يضع الله بينك وبين النار خندقا مسيرة سبعين سنة.

ـ أن يباعد الله بينك وبين النار كما يباعد بين السماء والأرض.

ـ من ختم له بصوم يوم دخل الجنة.

ـ في الجنة باب يدعى الريان، ينادى منه يوم القيامة: أين الصائمون؟ -ويا له من نداء يوم الظمإ- فيقومون ويلبون، ويدخلون من باب الريان، ثم إذا دخلوا أغلق دونهم، فلم يفتح لأحدهم بعدهم.

ومع عظم الجزاء المذكور، فالصوم أكبر من كل هذا لأنه لله، والله يجزي به.

أجر الصوم سر بين العبد وربه، فإحتسب هذه.. احتسب ظمأ يوم القيامة.. احتسب مضاعفة الأجر بقدر لا يعلمه إلا الله.. احتسب أن يباعد الله وجهك عن النار مسيرة سبعين خريفا.. احتسب أن تموت على صوم فتدخل الجنة: «من ختم له بصوم يوم دخل الجنة» صحيح الجامع 6224.

احتسب كل هذا، وتربّ في مدرسة ذهب الظمأ.. ذهب واللهِ ذهب، وكيف لا يذهب وهو لله جل جلاله وهو أهل التضحية، وهو مولى التزكية، وهو أهل السر بالعبادة، وهو سبحانه أهل احتساب العمل لأجله.

إليك وإلا لا تشد الراحلة، وفيك وإلا فالغرام مضيّع، وعنك وإلا فالمُحدّث كاذب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: موقع الربانية.